غزوة أحد
استعداد قريش لمعركة ناقمة:
كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم.
وعلى إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد اللَّه بن ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحماساً لخوض المعركة.
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سبباً لمعركة بدر. وقالوا للذين كانت فيها أموالهم يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها. وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعاً من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغرى أبا عزة الشاعر - الذي كان قد أسر في بدر فمن عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بأن لا يقوم ضده - أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر - مسافع بن عبد مناف الجمحي لنفس المهمة.
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقداراً كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة.
وزاد الطينة بلة - أو زاد النار إذكاء - ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها. وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين.
قوام جيش قريش وقيادته:
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش ورأس قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة.
وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع.
وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل. أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار.
جيش مكة يتحرك:
تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت الثارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير.
الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو:
وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش.
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة - التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلومتراً - في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.
استعداد المسلمين للطوارىء:
وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارىء.
وقامت مفرزة من الأنصار - فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة - بحراسة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح.
وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها خوفاً من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من المسلمين - لاكتشاف تحركات العدو -تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين.
الجيش المكي إلى أسوار المدينة:
وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبواء اقترحت هند بنت عتبة - زوج أبي سفيان - بنبش قبر أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب.
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد في مكان يقال له عينين في بطن السبخة من قناة على شفير الوادي - الذي يقع شمالي المدينة - فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.
تكتيب الجيش الإسلامي وخروج إلى ساحة القتال:
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.
ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين أي لبس درعاً فوق درع وتقلد السيف، ثم خرج على الناس.
وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير استكرهتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له يا رسول اللَّه ما كان لنا أن نخالفك. فاصنع ما شئت. إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته - وهي الدرع - أن يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين عدوه.
وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب:
1. كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري.
2. كتيبة الأوس من الأنصار. وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
3. كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر.
وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وخمسون فارساً وقيل لم يكن من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وأذن بالرحيل فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين.
ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل هل أسلموا؟ فقالوا: لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك.
استعراض الجيش:
وعندما وصل إلى مقام يقال له الشيخان استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبة ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم.
وأجاز راع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه فقال سمرة أنا أقوى من رافع، أنا أصرعه، فلما أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه، فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً.
المبيت بين أحد والمدينة:
وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، وانتخب خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
تمرد عبد اللَّه بن أبي وأصحابه:
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة من العدو. فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد اللَّه بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر - ثلاثمائة مقاتل - قائلاً ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره.
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لانعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد - في ذلك الظرف الدقيق - أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم. حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه.
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان - بني حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا، ولكن اللَّه تولاهما فثبتتا بعد ما سرى فيهما الاضطراب وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول اللَّه تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
وحاول عبد اللَّه بن حرام - والد جابر بن عبد اللَّه - تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد اللَّه بن حرام قائلاً أبعدكم اللَّه، أعداء اللَّه، فسيغني اللَّه عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنافقين يقول اللَّه تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].