الإيمان والكفر نقيضان، لا يجتمعان ولا يرتفعان..
الإيمان من الله، والكفر من الشيطان..
الشيطان عدو لله تعالى، وعدو لمن آمن بالله تعالى..
أعلن ذلك وطلب من ربه الإمهال إلى يوم الدين، ليغوي الناس أجمعين:
{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}..
فأعطاه المهلة.. فبدأ في جمع كيده وإضلال الناس.. فاتبعه كثير من الغاوين..
فارتفع لواء الكفر أمام لواء الإيمان، وبدأت العداوة، وبدأ الشيطان في أزّ الكافرين لمعاداة المؤمنين، فكانت هذه حقيقة من حقائق الدنيا، لا ينبغي تجاهلها أو طمسها..
فالعداوة بين الفريقين باقية ما داموا فريقين، وكل ما يلوح – في بعض الأحيان – فيما بينهما من سلم أو احترام، يمحوه حدث أو فتنة أو نازلة، تظهر حقيقة الأمر، فيظهر الكفار بالعداء الصريح، كما قال تعالى:
{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}..
فإذا كانت هذه هي الحقيقة الواقعة، وهي عداوة الكفار للمؤمنين، فكيف يكون التعامل معهم؟..
هل نعاملهم كما يعاملوننا: نظلم، ونحقد، ونحسد، ونغش، ونخدع، ونقصدهم جميعا بالعداوة؟.
أم نرتقي عن ذلك فنعاملهم معاملة المؤمن بربه، المتجرد من الهوى، المحب للناس الخير، مفرقين بين المعادين منهم وغير المعادين؟.
نحن أمام قضيتين، كل قضية لها جانبان:
القضية الأولى تتعلق بشعورنا وأحاسيسنا تجاه الكافر…
والثانية تتعلق بتعاملنا مع الكفار.
- فأما عن القضية الأولى: فإن شعور المسلم تجاه الكافر فإنه يقوم على البغض والكراهية، ذلك أن الكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا هو الأصل، لكن مع هذا الأصل لابد أن نستصحب الرأفة والشفقة عليهم، لأن بقاءهم على الكفر يفضي بهم إلى النار..
فبغضهم والتبريء منهم له فوائد شرعية، فمن ذلك:
- الحصانة من التأثر بهم، فإنه من المستحيل على الباغض التأثر بالمبغوض.
- يدفع المؤمنين إلى وقف مدهم، وحصر دينهم، ومنع انتشاره في العالمين.
- يحمل على إظهار بغضهم ليستشعروا ما هم فيه من الخطأ والزيغ، فيكون زجرا لهم.
وأما الرأفة بهم فإنها تحملنا على دعوتهم والسعي في تخليصهم من عذاب النار، ولا بد من هذين الأمرين: البغض والشفقة، فنبغضهم لأجل كفرهم، ونشفق عليهم لإنسانيتهم.
- وأما عن القضية الثانية: فإنه لابد وأن نفرق في تعاملنا مع الكفار بين الكافر المعادي الظاهر العداء، الذي يكيد للمسلمين ويقاتلهم ويتربص بهم، والكافر الذي لم يعاد المسلمين، كالشيوخ والنساء والصغار، ومن كان لا يشترك في قتال المسلمين ولا معاداتهم، وعمدتنا في التفريق بين هذين الصنفين قوله تعالى:
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}.
فهذه الآية محكمة، وقد ورد أن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تصل أمها؟ حين قدمت عليها مشركة، فإذن لها النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه..
فقد أذن الله ببر هؤلاء الضعفاء والذين لم يعادوا المسلمين، والوفاء لهم، وإعطاءهم قسطا من أموالهم على وجه الصلة، فإن ذلك داع لدخولهم في الإسلام، لكن هذا البر بهم لا يعني محبتهم وموالاتهم.
وأما الذين أظهروا العداء للمسلمين فإنه تجب معاداتهم، ويمنع برهم والإحسان إليهم، بل تجب الغلظة عليهم وقتالهم وعدم التهاون معهم، لأن شرهم كبير، وصدهم عن سبيل الله كثير.
إن هذا الدين يقوم على ركنين هما:
الولاء والبراء..
الولاء لله ولرسوله ولكتابه وللمؤمنين، ومعنى الولاء هو القرب والمحبة والنصرة والإكرام والتوقير..
والبراء من الكفر والكافرين، ومعنى البراء هو البعد والبغض والمعاداة والتصغير..
وقد ضرب لنا الله مثلا بإبراهيم عليه السلام مع أبيه قومه ليعلمنا حقيقة الولاء والبراء، فقال تعالى:
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك}..
وإبراهيم استغفر لأبيه أولاً طمعا في هدايته، لكن لما تبينت له عداوته لله تبرأ منه، قال الله تعالى:
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم }..
فقد نهى الله عن الاستغفار للكافرين ولو كانوا أولي قربى، وحرم مودتهم ولو كانوا آباءً وإخوانا فقال:
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}..
قيل إنها نزلت في أبي عبيدة قتل أباه، وأبو بكر أراد قتل ولده، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد، وعمر قتل بعض قرابته، وقتل حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث عتبة وشيبة والوليد بن عقبة يوم بدر..
فإذا كان الله لم يأذن في موالاة الكفار ومحبتهم ولو كانوا ذوي قربى، فكيف إذا كانوا أبعد الناس؟..
وإذا كان الله لم يأذن في الحزن على مصاب الكافر والاستغفار له ولو كان أبا أو ابنا، فكيف إذا كان من أمة تناصب العداء للمؤمنين؟!..
فليحذر المسلم أشد الحذر من التهاون في هذه القضية الخطيرة التي تمس أصل الدين، فإنه ما تهاون إنسان فيها إلا وشارف على الخروج من الملة، بل إنها أخطر عليه من شرب الخمر والسرقة…
لم نهى الشارع عن مودة الكافرين؟..
لأنه مدعاة إلى محبتهم، وإذا أحبهم الإنسان أحب دينهم، وإذا أحب دينهم كره دينه، وإذا كره دينه فقد خرج منه..
كما يحكى أن شابا رأى فتاة نصرانية جميلة فتعلق بها، فطلب منها الزواج فأبت إلا إن تنصر، ولأن حبها خالط قلبه نسي ولاءه لدينه وبراءه من دينها، فهان عليه أن يترك دينه إلى دينها فتنصر، وبينما هو يدور في سطح البيت قبل يوم الزواج إذ سقط فمات، فلا هو حصل دنيا ولا فاز بآخرة.. التذكرة للقرطبي ص43
وذكر ابن الجوزي أن رجلا كان من المجاهدين كثيرا في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات، والمسلمون محاصروا بلدة من بلاد الروم، إذا نظر إلى امرأة من نساء الروم فهويها، فراسلها:
كيف السبيل إلى الوصول إليك؟ ..
فقالت: أن تتنصر، وتصعد إلي..
فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها..
فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة فقالوا:
يا فلان ما فعل قرآنك؟ فقال: نسيته كله إلا قوله تعالى:
{ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} ( البداية والنهاية 12/64)،
* قال ابن عباس: لما أسروا الأُسارى [ يوم بدر] قال رسول الله لأبي بكر وعمر:
( ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟).
فقال أبو بكر: يانبي الله! هم بنوا العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام.
فقال رسول الله: ( ما ترى ياابن الخطاب؟).
قال عمر: لا والله يارسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان ـ نسيبا لعمر ـ فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
فهويَ رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله ! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
فقال رسول الله: ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) ـ شجرة قريبة من نبي الله ـ وأنزل الله عز وجل:
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم}(رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب الأمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/1385)
إذا كان الله تهدد وتوعد أولئك الصحابة الأخيار بالعذاب لإشارتهم بأخذ الفدية من الكفار دون قتلهم، فماذا نقول فيمن لم يقدم للإسلام شيئا، ولم يقاتل الكفار يوما، ثم هو مع ذلك يبكي لموتهم حزنا، ويتمنى حياتهم حبا، ويغتم ويهتم لمصابهم، أليس هو أولى من أولئك بعذاب واقع ليس له من الله دافع؟..
فالخلاصة:
أن قلب المؤمن كبير واسع رحيم، يرحم البشرية جمعاء، ويحب لهم النجاة والسعادة بالإسلام والإيمان، لذا فهو ينطلق في دعوتها..
لكنه في ذات الوقت لا يود الكافرين ولا يواليهم ولا يتحبب إليهم ولايتمنى حياتهم أو بقاءهم، ولا يبكي لأجل فوتهم وموتهم ومصابهم، بل إذا حزن فإنما يحزن لكفرهم وضلالهم وعبادتهم غير الله تعالى..
كما يروى عن عمر بن الخطاب أنه رأى راهبا فبكى، وقال:
" رأيت هذا فتذكرت قوله: { عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية}" (تفسير ابن كثير)..
فكان بكاؤه عليه لضلال سعيه، وخراب دينه، ومآله إلى جهنم وهو يحسب أنه يحسن صنعا، خوفا أن يضل مثله، أما أن يبكي المسلم حزنا على موت الكافر كما يبكي على موت أخيه المسلم، وأن يتمنى حياته وبقاءه كما يتمنى حياة المسلم وبقاءه، فذلك من الضلال المبين.